كثيرٌ من الناس في الحوار مع المذاهب الإلحادية الكبرى يخطيء في باب تقديم الأدلة على إلزامهم، فيقدّم ما حريٌّ تأخيره، ويؤخر ما يجب تقديمه، فيقفز على سبيل المثال، على الأدلة العقلية والفطرية حول وجود الله تعالى، ويبدأ في بيان الإعجاز العلمي في القرآن.
علماً بأن الملحد أو اللاديني لا يؤمن بالقرآن وتواتره، بل ينبغي على الداعية أن يتبع مع المخالف منهجا دقيقا في تقديم الأدلة، الواحدة تلو الأخرى، حتى يهيّأ مخالفه للإيمان، ويلزمه آخر المطاف بالإسلام.
ومن الأدلة الأولى التي ينبغي على الداعية تقديمها للملحد، دليل الخلق على وجود الخالق، أو ما يسميه أهل التخصص في علم الجدل، دليل الصنعة على وجود الصانع المختار .
ولبيان سطحيّة السؤال الإلحادي : ما الدليل على وجود الله تعالى ؟ نضربُ مثلاً صغير يبين تهافته، ويُظهر لذوي الألباب سطحيته .
تصور عزيزي القارئ، أنك كنتَ في دارٍ بديعة الصنع، جميلة الزخارف، حسنةِ الأثاث، فاستضفتَ فيها مُلحداً، فقال لك : ما الدليل على وجود صانع لهذه الدّار ؟!!!
لا شكَّ في أنّك ستضحك من سخف السؤال، وستتسائل عن مدى صحة نفسية سائله، ومدى سلامة عقله!
فالدار التي أنتما فيها في الحقيقة أوّل الأدلة على وجود صانعٍ لها، فقد علمناَ عقلاً باستحالة أن توجد الدار عبثاً، عبر صدفة أو مجموعة من الصدف التراكمية، فالصدفة لا تُنتج إلا العبث، والمُحكم لا يأتي إلا من طرف حكيم .
كما أن الدّار قائمةٌ بعمَدٍ وأساسات مبنية، وحسابات هندسيّةٍ دقيقة، وبتصميمٍ ذكيٍّ محكم، فصّل أجزاءها، وصمّم أركانها، وبعد ذلك زيّنها وزخرفها بألوانٍ وصباغاتٍ زاهيةٍ متناسقةٍ، ونقشٍ بديع ودقيقٍ، وديكورٍ أنيق وجيدٍ، فعلمنا من كلّ ذلك أن من أقامها صانعٌ مبدعٌ، وحرفيٌّ ماهر.
وقد أبدع المفسر فخر الدين الرازي حين قال : " في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهدٌ بأن حدوث دارٍ منقوشةٍ بالنقوش العجيبة، مبنيةٍ على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاشٍ عالمٍ، وبانٍ حكيمٍ، ومعلومٌ أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة، فلما شهدت الفطرة الأصليّة بافتقار النقش إلى النقّاش، والبنّاء إلى الباني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى. "
ولله المثل الأعلى، فالكون أكبر وأعقد من الدّار، وأحكمُ وأدقّ منها، فكان الأولى ألاَّ يتم طرح هذا السؤال الغبي .
فكوكبُ الأرض على سبيل المثال، مهيأٌ لحياة المخلوقات، بهواءٍ نقي، وماءٍ صافٍ، وأغذية مختلفة وبديعةٍ، وألوان زاهيةٍ ومتناسقة، تحكمها قوانين دقيقة، وسننٌ مضبوطةٌ، يستحيل عقلاً أن تكون بدون خالقٍ متّصفٍ بالحكمة والعلم والقدرة.
إن من يطرح مثل هذا السؤال، لهُوَ يعاني من وهمٍ مستحكمٍ يبرّره هذا الانغماس الشهواني في ملذّات الحياة المحرمة، حيث أن الإنسان المتمرد يتوق للتحرّر، لا خالقَ ولا ثوابَ ولا عقاب؛ ليضمن تبرير فعله سيكولوجيا ويستلذّ به.
إن دليل الخلق ليتصف ببساطةٍ عقليّةٍ يسيرةٍ تقود إلى الإيمان، ومجموعةٍ من البناءات المنطقية التي تقود لوجود الخالق ـ ولا تحتاج لتعقيدات فريديرك نتشه Friedrich Nietzsche، ) . وخزعبلات لودوفيك فيورباخ Ludwig Feuerbach ) ، وأضغات أحلام جون بول سارتر Jean-Paul Sartre ) ، وإن الملحد ليعلمُ في قرارة نفسه بقوة الأدلة على وجود الله تعالى وافتقاره لأدلة تثبت معتقده، وإنما آفتهم نفسيةٌ بامتيازٍ ، وسوف يذوقون حلاوة الإيمان بمجرد تغلبهم على عقدتهم اللاشعورية تلك .
إن دليل الخلق وغيرها من الأدلة الساطعة الأخرى، جعلت كثيراً من الفلاسفة والمفكرين يقرون بهذه الحقيقة البديهية، فهذا الفيلسوف الفرنسي جون دو لا بويير Jean de LA BRUYÈRE يقول في أحد كتبه : " العجز الذي أعانيه هو أنه كلما حاولتُ البرهنة على عدم وجود الله، يجعلني ذلك أكتشف أدلةً لوجوده " .
ودليل الصنعة على وجود الصانع، ليست محصورةً في مثال الدّار، بل يمكن إسقاطه على ما شاء الداعية إسقاطه من مخترعات البشرية، مثل ما قام به فولتير Voltaireحين قال: " إذا كانت الساعة تدلّ على وجود صانعٍ ساعاتيٍّ، لكن الكون لا يدلّ على وجود مهندسٍ كبيرٍ، إذاً أعترفُ حينها أني سفيهٌ " ، أو كما فعل إسحاق نيوتن Isaac Newton ، في حوراه مع ميكانيكي ملحد .
وعليهِ ينبغي أن يصغي كلُّ ضالٍّ إلى نداء العقل والمنطق، فهو كفيلٌ بأن يجلّي غبار الباطل عن ذهنه، ويتأمل في خلقه عز وجل، مصداقاً لقول الله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحي ابه الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة : 164) .