العَبْدُ لاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ
وَمِنْ تَوْحِيدِهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ: اعْتِقَادُ أَنَّ العَبْدَ لاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وَهُوَ: مَا غَابَ عَنِ الحَوَاسِّ وَلاَ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِصَحِيحِ النَّظَرِ، فَلاَ يُعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الخَبَرِ، فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ -حِينَئِذٍ- كَمَا جَاءَ بِدُونِ زِيَادَةٍ وَلاَ تَنْقِيصٍ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾(٢)، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾(٣)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾(٤)، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾(٥)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾(٦)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(٧)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(٨)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾(٩)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾(١٠)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾(١١)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾(١٢).
(١) تقاربت تعاريفُ العلماء لمعنى الغيب وحقيقته، فهي دائرةٌ على ما غاب عن الحاسَّة وعلمِ الإنسان، قال الزجَّاج -رحمه الله- في [«تفسيره» (١/ ٧٢)] عن الغيب: «ما غاب عنهم ممَّا أخبرهم به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أمر الغيب والنشور والقيامة، وكلُّ ما غاب عنهم ممَّا أنبأهم به فهو غيبٌ»، وقال الباجيُّ -رحمه الله- في [«المنتقى» (١/ ٣٣٤)]: «الغيب هو المعدوم وما غاب عن الناس»، وقال ابن العربيِّ -رحمه الله- في [«أحكام القرآن» (١/ ٨)]: «حقيقته ما غاب عن الحواسِّ ممَّا لا يوصَل إليه إلاَّ بالخبر دون النظر».
والمصنِّف -رحمه الله- في إرادته المزيدَ مِن صور التوحيد العلميِّ ذكر أنَّ مِن مقتضى توحيد الربوبية: الإيمانَ بأنَّ الله تعالى عنده علمُ الغيب يستأثر به دون مشاركةٍ لأحدٍ، وأنَّ بيده -سبحانه- الطرقَ الموصِلة إليه، لا يملكها أحدٌ إلاَّ هو، فمَن شاء إطلاعَه عليها ممَّن رضي عنه واجتباه أطلعه، ومَن شاء حَجْبَه عنها حَجَبه، ولا يكون ذلك مِن إفاضته إلاَّ لرسله لقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٧٩]، قال الشيخ السعديُّ -رحمه الله- في [«تفسيره» (١٠٥٢)]: «﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيب، ﴿إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمتُه أن يخبره به، وذلك لأنَّ الرسل ليسوا كغيرهم، فإنَّ الله أيَّدهم بتأييدٍ ما أيَّده أحدًا من الخَلْق، وحَفِظ ما أوحاه إليهم حتى يبلِّغوه على حقيقته، مِن غير أن تتخبَّطهم الشياطين، ولا يزيدوا فيه أو ينقصوا».
هذا، وأمور الغيب كثيرةٌ لا يحصيها إلاَّ الله تعالى، فيدخل في عالَم الغيب كلُّ ما غاب عن الناس إدراكُه أو خَفِيَ عليهم علمُه، فكان الغيب اسمًا يقع على كلِّ ما غاب عن الخَلق مِن العلوم والمعارف وما كان وما يكون وما لم يكن: كيف يكون [انظر: «البراهين الإسلامية» لعبد اللطيف بن عبد الرحمن (٧٩)]. قال ابن تيمية -رحمه الله- في [«مجموع الفتاوى» (١٤/ ٥٢)]: «إنَّ اسم «الغيب» و«الغائب» من الأمور الإضافية، يراد به ما غاب عنَّا فلم ندركه، ويراد به ما غاب عنَّا فلم يدركنا، وذلك لأنَّ الواحد منَّا إذا غاب عن الآخَر مَغيبًا مطلقًا لم يدرك هذا هذا ولا هذا هذا، والله سبحانه شهيدٌ على العباد رقيبٌ عليهم مهيمنٌ عليهم، لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، فليس هو غائبًا وإنما لمَّا لم يَرَه العباد كان غيبًا، ولهذا يدخل في الغيب الذي يؤمَن به وليس هو بغائبٍ».
ويدخل في معنى الغيب الذي يجب الإيمانُ به كلُّ ما أخبر به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كالإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُله واليوم الآخر وقَدَرِه والحياةِ بعد الموت والبعث والنشور وغيرها، فكلُّ ما غاب عنهم ممَّا أنبأهم به فهو غيبٌ، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «الغيب -هاهنا- كلُّ ما أُمِرْتَ بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مِن الملائكة والبعث والجنَّة والنار والصراط والميزان» [انظر: «تفسير البغوي» (٤٧)]، فمن آمن بالله ربًّا وبمحمَّدٍ رسولاً وجب عليه الإيمانُ بما أخبرا به مِن الغيب مِن غير البحث عن تفاصيله وتأويله، فإنَّ ذلك لا سبيل إلى إدراكه بنظرٍ صحيحٍ ولا الوصول إليه بالعقل الراجح ولا الفكر الثاقب، لذلك وجب الاعتقادُ أنَّ العبد لا يعلم الغيبَ والإيمانُ به فيما عَلِم منه العبدُ بصحيح الخبر بدون زيادةٍ ولا تنقيصٍ، تلك هي من صفات المتَّقين الذين يُقِرُّون بما غاب عنهم ممَّا ورد به الخبر الصحيح، ومِن ذلك جميعُ الكتب المنزَّلة مع الإيقان بالآخرة وهي مِن الغيب، ذلك لأنَّ الإيمان بالمُشاهَد المحسوس ليس محلَّ إنكارٍ حتى يكون موصوفًا صاحبُه بالإيمان والتقوى، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٣-٥].
هذا، وقد رتَّب العلماء الغيبَ بحسب الإطلاق والتقييد، وقسَّموه إلى: غيبٍ مطلقٍ عن الخلق كافَّةً، وآخَر مقيَّدٍ وهو ما علَّمه بعضَ المخلوقين دون بعضٍ، وقد أفصح عن هذه القسمة الثنائية للغيبِ ابنُ تيمية -رحمه الله- في [«مجموع الفتاوى» (١٦/ ١١٠)] بقوله: «وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ٢٦]، والغيب المقيَّد ما عَلِمه بعضُ المخلوقات مِن الملائكة أو الجنِّ أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيبٌ عمَّن غاب عنه، ليس هو غيبًا عمَّن شهده، والناس كلُّهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيَّدًا، أي: غيبًا عمَّن غاب عنه من المخلوقين لا عمَّن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبةً».
غيبٌ مطلقٌ عن جميع المخلوقين لا مطمع للعبد في العلم به وإدراكه، ولا سبيل إلى الكشف عنه بحواسِّه، وقد يختصُّ علمُه سبحانه به وحده ويحجبه عن غيره، وقد يكشفه أو يكشف بعضَه بواسطة الوحي لرُسُله، لذلك كان هذا القسم نوعين:
غيبٌ مطلقٌ استأثر الله بعلمه واختصَّ به دون خَلْقه لقوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ﴾ [النمل: ٦٥]، مثل علمِه -سبحانه- بالساعة، والموتِ من حيث سببُه وزمانه ومكانه، وبعض أسماء الله تعالى غيَّبها عن العباد، ونحو ذلك كثيرٌ، فهذا النوع موافقٌ لمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في [«تفسيره» (٣/ ٤٥٣)]: «هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحدٌ إلاَّ بعد إعلامه تعالى بها، فعلمُ وقتِ الساعة لا يعلمه نبيٌّ مرسَلٌ ولا مَلَكٌ مقرَّبٌ، ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلاَّ الله، ولكن إذا أمر به عَلِمَتْه الملائكة الموكَّلون بذلك ومَن شاء اللهُ مِن خَلْقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام ممَّا يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرًا أو أنثى، أو شقيًّا أو سعيدًا؛ عَلِمَ الملائكة الموكَّلون بذلك ومَن شاء اللهُ مِن خَلْقه، وكذلك لا تدري نفسٌ ماذا تكسب غدًا في دنياها وأُخْراها، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: ٣٤]: في بلدها أو غيره مِن أيِّ بلاد الله كان، لا عِلْمَ لأحدٍ بذلك، وهذه شبيهةٌ بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] الآية، وقد وردت السنَّة بتسمية هذه الخمس: مفاتيحَ الغيب».
قلت: ومنها قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ: لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ» [أخرجه البخاري في «الاستسقاء» (٢/ ٥٢٤) باب لا يدري متى يجيء المطرُ إلاَّ الله، وقال أبو هريرة: عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللهُ»، وأحمد في «مسنده»
ولا يخفى أنَّ أمور الغيب التي أضاف الله عِلْمَها إلى نفسه كثيرةٌ، وإنما حصَرَتْها النصوص المتقدِّمة في خمسِ مفاتيحَ من باب تقريب معانيها على السامع، وقد أوضح ابنُ أبي جمرة -رحمه الله- هذا التعليلَ -ومِن ورائه- الحكمةَ مِن جعلِها خمسًا فيما نَقَله عنه ابنُ حجرٍ -رحمه الله- في «الفتح» حيث قال: «استعار للغيب مفاتيحَ اقتداءً بما نطق به الكتاب العزيز: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ﴾ وليقرِّب الأمرَ على السامع، لأنَّ أمور الغيب لا يحصيها إلاَّ عالِمُها، وأقربُ الأشياء إلى الاطِّلاع على ما غاب الأبوابُ، والمفاتيحُ أيسرُ الأشياء لفتحِ الباب، فإذا كان أيسرُ الأشياء لا يُعرف موضعُها فما فوقها أحرى أن لا يُعرف، قال: والمراد بنفي العلم عن الغيبِ الحقيقيُّ، فإنَّ لبعض الغيوب أسبابًا قد يُستدلُّ بها عليها، لكن ليس ذلك حقيقيًّا، قال: فلمَّا كان جميعُ ما في الوجود محصورًا في علمه شبَّهه المصطفى بالمخازن واستعار لِبابها المفتاحَ، وهو كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ قال: والحكمة في جعلها خمسًا الإشارةُ إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ﴾ إشارةٌ إلى ما يزيد في النفس وينقص، وخصَّ الرحمَ بالذكر لكون الأكثرِ يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرف أحدٌ حقيقتَها، فغيرُها بطريق الأَوْلى، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ» إشارةٌ إلى أمور العالَم العلويِّ، وخصَّ المطرَ مع أنَّ له أسبابًا قد تدلُّ بجري العادة على وقوعه، لكنَّه من غير تحقيقٍ، وفي قوله: «وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» إشارةٌ إلى أمور العالَم السفليِّ مع أنَّ عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقةً، بل لو مات في بلده لا يعلم في أيِّ بقعةٍ يُدفن منها ولو كان هناك مقبرةٌ لأسلافه بل قبرٌ أعدَّه هو له، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللهُ» إشارةٌ إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ: «غدٍ» لتكون حقيقتُه أقربَ الأزمنة، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقةَ ما يقع فيه مع إمكان الأَمارة والعلامة؛ فما بَعُدَ عنه أَوْلى، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللهُ» إشارةٌ إلى علوم الآخرة، فإنَّ يوم القيامة أوَّلُها، وإذا نفى عِلْمَ الأقرب انتفى علمُ ما بعده، فجمعت الآيةُ أنواعَ الغيوب وأزالت جميعَ الدعاوى الفاسدة، وقد بيَّن بقوله تعالى في الآية الأخرى وهي قولُه تعالى: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧] أنَّ الاطِّلاع على شيءٍ مِن هذه الأمور لا يكون إلاَّ بتوفيقٍ».
هذا، ويدلُّ على ما استأثر الله بعلمه مِن أسمائه تعالى الحسنى التي سمَّى بها نفسَه قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في دعائه: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ..» الحديث [أخرجه أحمد في «مسنده» (٥/ ٢٦٦)، والطبراني في «الكبير» (١٠/ ١٦٩)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٥٠٩)، وابن حبَّان في «صحيحه» (٣/ ٢٥٣)، وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ٢٢٣)، والبزَّار في «مسنده» (٥/ ٣٦٣) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١/ ١٧٦)].
قلت: والغيب المطلق الذي استأثر اللهُ بعلمه يبقى من النوع الأوَّل ما لم يُعْلِم به مَن شاء مِن خَلْقه، فإذا أعلمه كان من النوع الثاني فيما أُعلم به.
النوع الثاني: غيبٌ مطلقٌ لا يعلمه إلاَّ اللهُ تعالى، أطلع عليه رُسُلَه جملةً أو أعلمهم ببعض تفاصيله، وأودعهم مِن غيبه ما شاء عن طريق الوحي، وجَعَله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوَّتهم، فرُسُلُ الله تعالى لا يعلمون الغيبَ إلاَّ مِن طريق الوحي بتعريف الله إيَّاهم، فيبلِّغون عن الله غيبَه للناس، وقد حكى ابن الحاج المالكيُّ -رحمه الله- الإجماعَ على كفرِ مَن ادَّعى أنَّ الأنبياء يعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة [انظر: «الشرك ومظاهره» للميلي (٢٠٠)].
ومِن أمثلة هذا النوع مِن الغيب ما أخبر الله تعالى به مِن امتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملإ الأعلى قبل إيجادهم، وما استفسرت الملائكةُ ربَّها واستعلمته بسؤالها لاستكشاف الحكمة مِن خَلْق بني آدم مع أنَّ منهم مَن يُفسد في الأرض ويسفك الدماء، فأعلمهم الله تعالى أنَّ له حكمةً مفصَّلةً ومصلحةً راجحةً في خلقهم على المفاسد التي ذكروها وتعلَّموها في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠].
ومثل ذلك -أيضًا- ما أمر الله رسولَه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يخبر قومَه أنَّ نفرًا من الجنِّ استمعوا القرآنَ فآمنوا به وصدَّقوه وانقادوا إليه في قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: ١-٢]، والأشبهُ به في هذا المقام قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٢٩-٣٠].
القسم الثاني: غيبٌ مقيَّدٌ، وتقييدُ الغيب إمَّا باعتبار نسبته، وإمَّا باعتبار مآليَّته، ولذلك يمكن تفريع هذا القسم إلى نوعين:
النوع الأوَّل: وهو غيبٌ باعتبار نسبته إلى مَن غاب عنه مِن المخلوقين دون مَن شَهِده منهم، ومِن أمثلته: الوقائع التاريخية التي قصَّها الله تعالى على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن طريق الوحي: كإخباره له عن قصَّة نوحٍ عليه السلام ودعوتِه إلى الله والنذارة لقومه مِن عذابه، ومجادلةِ الكبراء والعظماء مِن الكافرين منهم له بالباطل، واستعجالِهم نقمةَ الله وعذابَه، واستهزائِهم به حين صنع السفينةَ وبما توعَّدهم به مِن الغرق، ومناداةِ نوحٍ عليه السلام ابنَه بالركوب فيها مع مَن آمن، وما أخبر الله أنه كان هو وأهلَ الأرض جميعًا مِن المغرَقين إلاَّ أصحاب السفينة، ونحو ذلك ممَّا جَرَى في هذه القصَّة وأشباهِها، كلُّها مِن أخبار الغيب، يُعْلِم الله بها نبيَّه وحيًا كأنه شاهدها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: ٤٩].
وما قصَّه الله تعالى -أيضًا- على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن نبإ إخوة يوسف عليه السلام، والمنزلةِ التي رفعه الله إليها وجعل عاقبتَه النصرَ والملك والحكم والتمكين، مع ما أرادوا بيوسف عليه السلام سوءًا وهلاكًا وإعدامًا بالمكر به وإلقائه في الجبِّ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: ١٠٢].
وكذلك إخباره عن قصَّة امرأة عمران حين دَعَتِ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يَهَبَهَا ولدًا خالصًا مفرَّغًا للعبادة فوهبها مريم عليها السلام، وما أعقب ذلك مِن كفالة زكريَّا لها وما رآه مِن كراماتٍ عندها، ودعائِه لربِّه بأن يَهَبَه ذرِّيَّةً طيِّبةً مع ما كان عليه مِن الشيخوخة الكبيرة، ومناداةِ الملائكة له وتبشيره بيحيى عليه السلام، والإخبار بما خاطبت به الملائكةُ مريمَ واصطفائها على نساء العالمين، ونحوِ ذلك ممَّا قصَّه الله تعالى على نبيِّه وأطلعه عليه كأنه شاهدُ عِيانٍ لِما كان مِن أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم: أيُّهم يكفلها تحصيلاً للأجر، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
النوع الثاني: غيبٌ باعتبار مآله، وهو ما غاب عن حسِّ المخلوقين وإدراكهم في حاضر الوقت دون مستقبل الزمان، حيث يبقى خفيًّا علمُه حتى يظهر وينكشف حجابُه، سواءٌ على المدى القريب أو البعيد.
ومِن أمثلة هذا النوع خبرُ موت سليمان عليه السلام، فقد عمَّى اللهُ موتَه على الجنِّ المسخَّرين في الأعمال الشاقَّة، فمات عليه السلام متوكِّئًا على عصاه مدَّةً طويلةً نحوَ سنةٍ، ولم تعلم الجنُّ ذلك حتَّى أَكَلَتِ الأَرَضَةُ عصاه، فسقط على الأرض، فتبيَّنت الجنُّ وكذلك الإنس أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيبَ كما كانوا يتوهَّمون ويُوهِمون الناسَ بذلك، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ﴾ [سبأ: ١٤]، ومِن أمثلته -أيضًا- قولُه تعالى: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ١-٣].
ويدخل في هذا النوع -أيضًا- ما أخبر به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الأمور الغيبية التي وقعت أو لم تقع بعدُ كأشراط الساعة الكبرى التي تظهر قُرْبَ قيام الساعة في آخر الزمان وتكون غيرَ معتادةِ الوقوع: كظهور المسيح الدجَّال، ونزولِ عيسى عليه السلام، وخروجِ يأجوج ومأجوج، وخروجِ الدابَّة، وطلوعِ الشمس مِن مغربها، وكذلك أشراط الساعة الصغرى التي لم تظهر بعدُ، وقد يكون بعضُها يظهر مصاحبًا لأشراط الساعة الكبرى أو بعدها: كاستحلال البيت الحرام وهدمِ الكعبة، وظهورِ الريح التي تقبض أرواحَ المؤمنين ونحوِ ذلك مِن أمور الغيب المستقبَلة، أمَّا علمُ الساعة فمنتهاه إلى الله وحده لا يعلمه أحدٌ مِن أهل السماوات والأرض، وهو مِن الغيب المطلق لقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ [النازعات: ٤٢-٤٤].
هذا، وجميع ما غاب عن المخلوقين ممَّا أنبأهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أركان الإيمان وغيرِها فهو غيبٌ، والعبد لا يعلم منه شيئًا إلاَّ بما بَلَغَه مِن نصوص الوحي القرآنيِّ وصحيحِ الأخبار ممَّا يتعلَّق بأمور الغيب، فلا يصحُّ إيمانُه إلاَّ باعتقاده الجازم بصحَّة ما بلغه وبالوحي الذي حصل له به العلمُ بعيدًا عن الشكِّ والريبة، فذلك الاعتقاد مِن مقتضى توحيد الله تعالى في ربوبيَّته.
(٢) الآيات: ٢٦، ٢٧، ٢٨ من سورة الجنِّ.
ومِن خلال هذا العرض يظهر جليًّا أنَّ أنواع الغيب التي تمدَّح اللهُ بعلمها واستأثر بها دون غيره لا مطمع لأحدٍ في شيءٍ منها إلاَّ مَن ارتضاه مِن الرسل الذين لا يعلمون مِن الغيب إلاَّ بتعريف الله إيَّاهم، وقد أكَّد هذا المعنى القرآنُ والسنَّة في مواضع متعدِّدةٍ، قال الشاطبيُّ -رحمه الله- في [«الموافقات» (٤/ ٨٤)]: «وقد تعاضدت الآياتُ والأخبار وتكرَّرت في أنه لا يعلم الغيبَ إلاَّ الله، وهو يفيد صحَّةَ العموم مِن تلك الظواهر -حسبما مرَّ في باب العموم مِن هذا الكتاب- فإذا كان كذلك خرج مَن سوى الأنبياء مِن أن يشتركوا مع الأنبياء صلواتُ الله عليهم في العلم بالمغيَّبات».
فكان الاستدلال بقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧] وبغيرها مِن الأدلَّة حجَّةً ظاهرةً على إبطال ما يدَّعيه الكَهَنةُ والمنجِّمون والعرَّافون ونحوُهم مِن الدجَّالين المضلِّين مِن اطِّلاعهم على أمور الغيب، والتحذيرِ مِن إتيانهم وتصديقهم فيما يخبرون، فكلُّ مَن ادَّعى عِلْمَ شيءٍ مِن أمور الغيب غيرَ مسنَدةٍ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان مفتريًا على الله، كاذبًا في دعواه، مكذِّبًا بالقرآن لأنه خالَفَه [انظر: «تفسير القرطبي» (١٤/ ٨٢)، «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٢٣)]. قال ابن حجرٍ -رحمه الله- في [«الفتح» (١٣/ ٣٦٤)]: «وفي الآية ردٌّ على المنجِّمين وعلى كلِّ مَن يدَّعي أنه يطَّلع على ما سيكون مِن حياةٍ أو موتٍ أو غير ذلك؛ لأنه مكذِّبٌ للقرآن وهُم أبعدُ شيءٍ مِن الارتضاء مع سلبِ صفة الرسلية عنهم»، وقال القرطبيُّ -رحمه الله- في [«تفسيره» (١٩/ ٢٨)]: «وليس المنجِّم ومَن ضاهاه ممَّن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممَّن ارتضاه مِن رسولٍ فيُطْلِعَه على ما يشاء مِن غيبه، بل هو كافرٌ بالله مُفْتَرٍ عليه بحَدْسِه وتخمينه وكذبه».
قلت: وقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه النهيُ عن إتيان الكهَّان والعرَّافين ومَن شابههم وعن تصديقهم في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» [أخرجه أبو داود في «الطبِّ» (٤/ ٢٢٥) بابٌ في الكاهن، والترمذي في «الطهارة» (١/ ٢٤٣) بابٌ في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجه في «الطهارة» (١/ ٢٠٩) بابٌ في إتيان الحائض، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» برقم: (٣٩٠٤)]، وعن بعض أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» [أخرجه مسلم في «السلام» (١٤/ ٢٢٧) باب تحريم الكهانة وإتيان الكُهَّان]، وعن معاوية بن الحكم السُّلَميِّ قال: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ؟»، قَالَ: «فَلاَ تَأْتُوا الكُهَّانَ» [أخرجه مسلم في «السلام» (١٤/ ٢٢٣) باب تحريم الكهانة وإتيان الكُهَّان].
قال النوويُّ -رحمه الله- في [«شرح مسلم» (١٤/ ٢٢٣)]: «قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَلاَ تَأْتُوا الكُهَّانَ» وفى روايةٍ: «سُئِلَ عَنِ الكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»» [أخرجه البخاري في «الأدب» باب قول الرجل للشيء: ليس بشيءٍ، وهو ينوي أنه ليس بحقٍّ (٦٢١٣)، ومسلم في «السلام» (٢٢٢٨)، من حديث عائشة رضي الله عنها]: قال القاضي -رحمه الله-: كانت الكهانة في العرب ثلاثةَ أَضْرُبٍ: أحدها: يكون للإنسان وليٌّ مِن الجنِّ يخبره بما يَسْتَرِقُهُ مِن السمع مِن السماء، وهذا القسم بَطَلَ مِن حينِ بَعَث اللهُ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم. الثاني: أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه ممَّا قَرُب أو بَعُد، وهذا لا يَبْعُد وجودُه، ونَفَتِ المعتزلةُ وبعض المتكلِّمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالةَ في ذلك ولا بُعْدَ في وجوده، لكنَّهم يصدقون ويكذبون، والنهيُ عن تصديقهم والسماعِ منهم عامٌّ. الثالث: المنجِّمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوَّةً ما، لكنَّ الكذب فيه أغلب، ومِن هذا الفنِّ العرافةُ وصاحِبُها عرَّافٌ، وهو الذي يستدلُّ على الأمور بأسبابٍ ومقدِّماتٍ يدَّعي معرفتَها بها، وقد يعتضد بعضُ هذا الفنِّ ببعضٍ في ذلك: بالزجر والطرق والنجوم وأسبابٍ معتادةٍ، وهذه الأَضْرُبُ كلُّها تُسمَّى كهانةً، وقد أكذبهم كلَّهم الشرعُ ونهى عن تصديقهم وإتيانهم».
ويلتحق بهذه الأضرب حكمًا ما انتشر في هذا العصر مِن أنواع الكهانة والتنجيم كالرمَّال، والضرب بالحصى، وقراءة الكفِّ والفنجان، وقراءة الحروف الأبجدية، وقراءة الخطوط ونحو ذلك، كما يدخل فيها قراءة الأبراج المتداوَلة في الجرائد والصحف والمجلاَّت ونحوها، فهذه الأضرب جميعُها يحرم الإيمان بها أو الاطِّلاع على حظِّه منها، ولو من غير تصديقٍ سدًّا لذريعة الشرك، لذلك «يجب على مَن قدر على ذلك مِن محتسبٍ [أي: القائم بالحِسبة الذي له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. انظر: «الحسبة» لابن تيمية (١٦)] وغيره أن يقيم مَن يتعاطى شيئًا مِن ذلك مِن الأسواق ويُنكرَ عليهم أشدَّ النكير وعلى مَن يجيء إليهم، ولا يغترَّ بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة مَن يجيء إليهم ممَّن يُنسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل مِن الجهَّال بما في إتيانهم من المحذور» [«فتح الباري» (١٠/ ٢٢١) نقلاً عن القرطبي].
وفي هذا المقام من التحذير مِن خطورة أهل التلبيس والكذبِ مِن الكُهَّان وأضرابهم وبيانِ استحقاقهم للعقوبة التي تردعهم قال ابن أبي العزِّ -رحمه الله- في [«شرح العقيدة الطحاوية» (٥٦٨، ٥٦٩)] باختصارٍ: «والواجب على وليِّ الأمر وكلِّ قادرٍ أن يسعى في إزالةِ هؤلاء المنجِّمين والكُهَّان والعرَّافين وأصحابِ الضرب بالرمل، ..وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعالَ الخارجة عن الكتاب والسنَّة أنواعٌ: نوعٌ منهم أهلُ تلبيسٍ وكذبٍ وخداعٍ، الذين يُظهر أحدُهم طاعةَ الجنِّ له، أو يدَّعي الحالَ مِن أهل المُحال مِن المشايخ النصَّابين والفقراءِ الكذَّابين والطُّرُقيةِ المكَّارين، فهؤلاء يستحقُّون العقوبةَ البليغة التي تردعهم وأمثالَهم عن الكذب والتلبيس».
ويدخل -أيضًا- في ابتداع نسبةِ علم الغيب للمخلوقين ما تدَّعيه الشيعةُ الرافضة الإثنا عشرية مِن علمِ الغيب للأئمَّة مِن ولد عليٍّ رضي الله عنه، وهو جزءٌ من عقيدتهم الفاسدة، وفي هذا المضمون قال ابنُ قتيبة -رحمه الله- في [«الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية» (٥٤)]: «وقد رأيتُ هؤلاء -أيضًا- حين رأَوْا غُلُوَّ الرافضة في حبِّ عليٍّ وتقديمَه على ما قدَّمه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتُه عليه وادِّعاءَهم له شِرْكَةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في نبوَّته، وعِلْمَ الغيب للأئمَّة مِن ولده، وتلك الأقاويل والأمور السرِّيَّة التي جمعت إلى الكذب والكفرِ إفراطَ الجهل والغباوة» [انظر ادِّعاء الرافضة لأئمَّتهم معرفةَ الغيب في: «الكافي» للكُلَيني (١/ ٢٦٠-٢٦٣) باب أنَّ الأئمة يعلمون عِلْمَ ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيءٌ].
وقد تبعهم في دَجَلهم وضلالهم مَن تأثَّر بدعوتهم مِن متأخِّري الصوفية، فادَّعوا لمشايخهم عِلْمَ الغيب، ومعرفةَ ما في البرِّ والبحر، وما يقع للإنس والجنِّ في حياتهم وبعد مماتهم، ونحو ذلك من الخرافات والدجل، فقد قال إبراهيم الدسوقيُّ الصوفيُّ -في مَعْرِض ذكر خصائص العارف بالله عند الصوفية- ما نصُّه: «وكذلك لهم اطِّلاعٌ على ما هو مكتوبٌ على أوراق الشجر والماء والهواء، وما في البرِّ والبحر، وما هو مكتوبٌ على صفحةِ قبَّةِ خيمة السماء، وما في حياة الإنس والجانِّ ممَّا يقع لهم في الدنيا والآخرة، فلا يُحجب مِن حكيمٍ يتلقَّى علمًا مِن حكيمٍ عليمٍ» [«جمهرة الأولياء» للمنوفي (٢/ ٢٤٢)].
وقد أفصح الشيخ المبارك الميلي -رحمه الله- عن تأثُّر الصوفية بالشيعة الرافضة، للتوافق بين الطائفتين في معظم الانحرافات العقدية، فقال -رحمه الله- في [«الشرك ومظاهره» (٢٠١)]: «وقد سَرَتْ هذه البدعةُ (أي: نسبة علمِ الغيب للمخلوق) مِن الرافضة إلى متأخِّري الصوفية لاندماج الطائفتين بعضِهما في بعضٍ، وانتحالِ الصوفية كثيرًا مِن العقائد التي ابتدعها الرافضة».
تنبيه: وجديرٌ بالملاحظة والتنبيهِ أنَّ بعض المعارف ليست مِن علم الغيب ولا تدخل في أحواله، ويمكن إظهارُها على الوجه التالي:
أوَّلاً: الإلهام (أو التحديث): وهو أن يُلقيَ اللهُ في قلب المؤمن أمرًا فيخبرَ به حَدْسًا وفراسةً، ويدفعه إلى الفعل أو الترك [انظر: «النهاية» لابن الأثير (١/ ٣٥٠)]، فقد يفتح الله تعالى على المؤمن الصادق في إيمانه واستقامته ومتابعةِ سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن إلهاماتٍ صحيحةٍ وفراساتٍ صائبةٍ وأحوالٍ صادقةٍ ما يكون الحكمُ على وَفْقه في قلبه أقوى مِن كثيرٍ من الأقيسة أو الظواهر والاستصحابات الضعيفة التي خاض فيها أهلُ المذاهب والخلاف.
وليس هذا مِن علم الغيب في شيءٍ، وإنما هو علمٌ يلقيه الله في قلب المؤمن يطمئنُّ له الصدرُ ويدعو إلى العمل مِن غير استدلالٍ ولا نظرٍ، ويدلُّ على حقيقته قولُه تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧-٨]، وقولُه تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وقولُه تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ٦٦-٦٨]. قال أبو عثمان النيسابوريُّ -رحمه الله-: «من أمَّر السنَّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأنَّ الله تعالى يقول في كلامه القديم: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤]» [«الجامع لأخلاق الراوي» للخطيب البغدادي (١/ ٨٠)، وانظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ٢١٠)].
وفي سياق ذكرِ صفةِ المسيح الدجَّال الأعور وما كُتب بين عينيه: «كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ» [أخرجه مسلم في «الفتن وأشراط الساعة» (٢٩٣٤)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما] بيَّن ابن تيمية -رحمه الله- في [«مجموع الفتاوى» (٢٠/ ٤٥)] انكشافَ حالِ هذا الدجَّال للمؤمن الصادق، وأنَّ القلب إن كان عامرًا بالتقوى انجَلَتْ له الأمورُ وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المظلم حيث قال -رحمه الله-: «فدلَّ على أنَّ المؤمن يتبيَّن له ما لا يتبيَّن لغيره ولا سيَّما في الفتن، وينكشف له حالُ الكذَّاب الوضَّاع على الله ورسوله، فإنَّ الدجَّال أكذبُ خَلْقِ الله مع أنَّ الله يُجري على يديه أمورًا هائلةً ومخاريقَ مزلزِلةً، حتَّى إنَّ من رآه افتُتن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذِبَها وبطلانها، وكلَّما قَوِيَ الإيمانُ في القلب قَوِيَ انكشافُ الأمور له وعرف حقائقَها مِن بواطلها، وكلَّما ضَعُفَ الإيمان ضَعُفَ الكشفُ، وذلك مَثَلُ السراج القويِّ والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] قال: «هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابِقة للحقِّ وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نورٍ»، فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نورَ القرآن، فالإلهام القلبيُّ تارةً يكون مِن جنس القول والعلم، والظنِّ أنَّ هذا القول كذبٌ وأنَّ هذا العمل باطلٌ، وهذا أرجحُ مِن هذا أو هذا أصوب».
غير أنَّ هذا الإلهام يُعَدُّ أمرًا خاصًّا لا يتعدَّى الملهَمَ وليس بحجَّةٍ على غيره، ولا يثبت به حكمٌ شرعيٌّ، ولا يجوز إلزامُ غيرِه به لانتفاء القدرة على إقامة الدليل على صحَّة إلهامه [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٠/ ٤٧٢، ٤٧٧، ٦١١، ١١/ ٦٥، ١٣/ ٤٥، ٢٠/ ٤٢، ٤٧)]، وقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» [أخرجه البخاري في «فضائل الصحابة» (٧/ ٤٢) باب مناقب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه].
قال المعلِّميُّ -رحمه الله- في [«التنكيل» (٢/ ٢٤٣)]: «وهذه سيرة عمر بين أيدينا، لم يُعرف عنه ولا عن أحدٍ من أئمَّة الصحابة وعلمائهم استدلالٌ بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفى عليهم الحكمُ فيَسألون عنه، فيخبرهم إنسانٌ بخبرٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القولَ فيخبرهم إنسانٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخلافه فيرجعون إليه».
ويقرِّر ذلك ابن حجرٍ -رحمه الله- بقوله في [«فتح الباري» (١١/ ٣٤٥)]: «لا يُلتفت إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ إذا وافق الكتابَ والسنَّةَ، والعصمةُ إنما هي للأنبياء، ومَن عداهم فقد يخطئ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأسَ الملهَمين، ومع ذلك فكان ربَّما رأى الرأيَ فيُخبره بعضُ الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيَه، فمَن ظنَّ أنه يكتفي بما يقع في خاطره عمَّا جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظمَ الخطإ، وأمَّا مَن بالغ منهم فقال: «حدَّثني قلبي عن ربِّي» فإنه أشدُّ خطأً، فإنه لا يأمن أن يكون قلبُه إنما حدَّثه عن الشيطان، واللهُ المستعان».
وتقريرًا لهذا المعنى يقول ابنُ القيِّم -رحمه الله- في مَعْرِض بيان حكمة الله تعالى مِن إرسال الرسل إلى الأمم في [«مفتاح دار السعادة» (٢/ ١٨١)]: «..فلمَّا انتهت النبوَّةُ إلى محمَّدِ بنِ عبد الله رسولِ الله ونبيِّه أرسله إلى أكمل الأمم عقولًا ومعارفَ وأصحِّها أذهانًا وأغزرِها علومًا، وبَعَثَه بأكمل شريعةٍ ظهرت في الأرض منذ قامت الدنيا إلى حين مبعثه، فأغنى اللهُ الأمَّةَ بكمال رسولها وكمال شريعته، وكمالِ عقولها وصحَّةِ أذهانها عن رسولٍ يأتي بعده، أقام له مِن أمَّته ورثةً يحفظون شريعتَه، ووكَّلهم بها حتَّى يؤدُّوها إلى نُظَرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، فلم يحتاجوا معه إلى رسولٍ آخَرَ ولا نبيٍّ ولا محدَّثٍ، ولهذا قال: «إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» [أخرجه البخاري في «أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم» باب مناقب عمر بن الخطَّاب أبي حفصٍ القرشيِّ العدويِّ رضي الله عنه (٣٦٨٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في «فضائل الصحابة» (٢٣٩٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.]، فجزم بوجود المحدَّثين في الأمم، وعلَّق وجودَه في أمَّته بحرف الشرط، وليس هذا بنقصانٍ في الأمَّة على مَن قبلهم، بل هذا مِن كمال أمَّته على مَن قبلها، فإنها -لكمالها وكمالِ نبيِّها وكمال شريعته- لا تحتاج إلى محدَّثٍ، بل إن وُجد فهو صالحٌ للمتابعة والاستشهاد لا أنه عمدةٌ، لأنها في غُنْيةٍ بما بعث اللهُ به نبيَّها عن كلِّ منامٍ أو مكاشفةٍ أو إلهامٍ أو تحديثٍ، وأمَّا مَن قبلها فللحاجة إلى ذلك جُعل فيهم المحدَّثون».
ذلك لأنَّ الحقَّ الذي لا يشوبه باطلٌ هو: الكتابُ والسنَّة وإجماعُ الأمَّة، وبإزاء ذلك الإلهاماتُ والمنامات والإسرائيليات والحكايات ونحوُ ذلك، ففيها الحقُّ والباطل، وللتمييز بينهما يجب عرضُها على الشرع، فما زكَّاه قُبِل، وإلاَّ رُدَّ على صاحبه مهما كان القائل به [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٥)].
ثانيًا: الكرامة: وهي أمرٌ خارقٌ للعادة يُجريه اللهُ تعالى على يد عبده الصالح ليكرمه، فيحقِّق له نفعًا أو يدفع عنه ضرًّا أو ينصر به حقًّا، والتصديق بكرامات الصالحين مِن أصول السنَّة، قال ابن تيمية -رحمه الله- في [«مجموع الفتاوى» (٣/ ١٥٦)]: «ومِن أصول أهل السنَّة والجماعة: التصديقُ بكرامات الأولياء وما يُجري اللهُ على أيديهم مِن خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمَّة مِن الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمَّة، وهي موجودةٌ فيها إلى يوم القيامة».
هذا، وليس في الكرامة اطِّلاعٌ على الغيب، وإنما «هذه الأحوال مواهبُ مِن الله تعالى، وكراماتٌ للصالحين مِن هذه الأمَّة، لا صُنْعَ لهم فيها ولا قدرة لهم عليها، ولا يسمَّى هذا سحرًا في الشرع» [انظر: «تفسير ابن كثير» (١/ ١٤٥)، «تيسير العزيز الحميد» لسليمان بن عبد الله بن محمَّد (٤١٣)]، فليس فيها ادِّعاءُ علمِ الغيب ولا الاطِّلاع عليه، وإنما يحصل مِن قبيل التلويح لا الكشف الظاهر الذي اختصَّ اللهُ به رُسُلَه كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧]، لذلك فالنبيُّ يقطع بما يدَّعيه مِن معجزةٍ وهو مأمورٌ بإظهارها، بخلاف الوليِّ فلا يقطع بالكرامة، إذ لا يأمن على نفسه الاستدراجَ، قال ابن حجرٍ -رحمه الله- في [«الفتح» (١٣/ ٣٦٤)]: «قال الطيبيُّ: .. فلا يُظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلاَّ لرسولٍ يوحَى إليه مع مَلَكٍ وحَفَظةٍ، ولذلك قال: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: ٢٧]، وتعليلُه بقوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجن: ٢٨]، وأمَّا الكرامات فهي مِن قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء».
ثالثًا: الرؤيا الصالحة: وحقيقة الرؤيا أنها أمثلةٌ جعلها الله دليلاً على المعاني كما جُعلت الألفاظُ دليلاً على المعاني، فيستدلُّ الرائي بما ضُرِب له مِن المثل على نظيره، ويَعْبُر منه إلى شبهه، ولهذا سُمِّي تأويلُها تعبيرًا [انظر: «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (٤٢٢)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (١/ ١٩٥)]، فقد يرى الرجلُ الصالح في النوم ما يؤنسه أو يزعجه، الأمر الذي يدفعه إلى الإقبال على فعل المطلوب مِن الطاعات وترك المحظور، لذلك فالرؤيا الصالحة ليست ضربًا مِن علم الغيب، وإنما فائدتها تكمن في التنبيه والبشارة والنذارة، وقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ المُبَشِّرَاتُ»، قَالُوا: «وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟»، قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» [أخرجه البخاري في «التعبير» (١٢/ ٣٧٥) باب المبشِّرات، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
علمًا أنَّ الرؤيا كالإلهام، منها الرحمانيُّ والشيطانيُّ والنفسانيُّ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَالرُّؤْيَا ثَلاَثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» [أخرجه مسلم في «الرؤيا» (١٥/ ٢٠)، والترمذي في «الرؤيا» (٤/ ٥٣٢) باب أنَّ رؤيا المؤمن جزءٌ مِن ستَّةٍ وأربعين جزءًا من النبوَّة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
وهذه الحالات الثلاثُ يُشْكِل التمييزُ بينها، والغالب أنَّ الرُّؤى تكون على خلاف الظاهر فتحتاج إلى تعبيرٍ، ومع وجود الاحتمال فيها فلا عصمة إذن، بخلاف رؤيا الأنبياء فتعبيرُهم صادقٌ بالنظر إلى عصمتهم وتأييدهم بالوحي.
وعليه، فليست الرؤيا الصالحة حجَّةً شرعيةً ولا مصدرًا مِن مصادر المعرفة ولا ضربًا مِن علم الغيب، لذلك يَلْزَم عرضُها -كالإلهام- على الشرع ليُعْلَم صدقُها، فإن صدَّقها الشرعُ كان الحكم للشرع، وتبقى فائدتها للبشارة والنذارة والتنبيه والاستئناس اتِّفاقًا، قال المعلِّميُّ -رحمه الله- في [«التنكيل» (٢/ ٢٤٢)]: «اتَّفق أهل العلم على أنَّ الرؤيا لا تصلح للحجَّة، وإنما هي تبشيرٌ وتنبيهٌ، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجَّةً شرعيةً صحيحةً».
رابعًا: الفراسة: ولها معنيان:
أحدهما: معرفة أحوال الناس والتمييزُ بها بين الصادق والكاذب والمحقِّ والمبطِل بإصابة الظنِّ أو الحَدْس، وتحصل هذه المعرفة نتيجةَ موهبةٍ ربَّانيةٍ أودعها اللهُ في القلب، وهي أشْبَهُ بالموهبة الإلهامية.
والثاني: معرفة أحوال الناس بما يكتسبه عن طريق تعلُّم الدلائل وتحصيلِ القرائن والانتفاعِ بالتجارب [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٤٢٨)، «مدارج السالكين» لابن القيِّم (١/ ١٤٨، ٢/ ٤٥٣)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٥٦٣)].
والفرق بين الإلهام والنوع الثاني مِن الفراسة: أنَّ الفراسة تتعلَّق بنوعِ كسبٍ وتحصيلٍ كتعلُّم الدلائل والتجارب والقرائن، فإذا تنبَّه إليها المتفرِّسُ عرف حالَ الناس كما يُحكى عن الشافعيِّ وغيره، بينما الإلهام موهبةٌ مجرَّدةٌ لا كَسْبَ فيها ولا تحصيلَ [انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (١/ ٦٩)].
وعليه، فعمدة الفراسة الحَدْسُ والظنُّ أو التركيز على القرائن والدلائلِ التي تفطَّن لها المتفرِّس، ومِن ثَمَّ ليست ضربًا مِن الغيب، إذ بإمكان المتفرِّس أن يشرح لغيره تلك القرائنَ والدلائل التي تنبَّه لها، فإن كانت حقًّا أو صدقًا عُمِل بتلك القرائنِ والدلائل لا بالفراسة [انظر: «التنكيل» للمعلِّمي (٢/ ٢٤٣)].
وممَّا تقدَّم يظهر أنَّ الإلهاماتِ والمناماتِ والفراساتِ ونحوَها خارجةٌ عن علم الغيب، إذ لا تقع استنادًا على علمٍ محقَّقٍ، وإنما هي مبنيَّةٌ على الآراء أو الظنون، وقد أفصح الشاطبيُّ -رحمه الله- في [«الموافقات» (٤/ ٨٥)] عن أنَّ ما لاح للأولياء فهو سانحٌ مظنونٌ بقوله: «فإذا لاح لأحدٍ مِن أولياء الله شيءٌ مِن أحوال الغيب فلا يكون على علمٍ منها محقَّقٍ لا شكَّ فيه، بل على الحال التي يقال فيها: «أرى» و«أظنُّ»، فإذا وقع مطابِقًا في الوجود وفُرض تحقُّقُه بجهة المطابَقة أوَّلاً والاطِّراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكمٌ، لأنه قد صار مِن باب الحكم على الواقع»، وقال القرطبيُّ -رحمه الله-: «وأمَّا ظنُّ الغيب فقَدْ يجوز من المنجِّم وغيرِه إذا كان عن أمرٍ عاديٍّ وليس ذلك بعلمٍ» [«فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٢٤)].